جورج حبش: هكذا تأسّست حركة القوميين العرب (2) - ترند نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في ترند نيوز نقدم لكم اليوم جورج حبش: هكذا تأسّست حركة القوميين العرب (2) - ترند نيوز

جورج حبش (يسار) يلوح لحشد في بغداد بمناسبة اجتماع لجبهة الرفض (27/3/1979 Getty)

هذا الحوار وثيقة مهمة في تجربة جورج حبش ورفاقه الأوائل الذين أسّسوا حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أنجزه في الجزائر سنة 1989 شريف الحسيني وسائدة الأسمر (حكمت نصّار). يتعلّق، في جزء كبير منه، بالقيادي المؤسّس في الجبهة وديع حدّاد وخلافه معها ومع حبش. ويتضمن تفصيلات مهمة عن البدايات التأسيسية لحركة القوميين العرب، وعن الرفاق الأوائل، أمثال هاني الهندي ووديع حدّاد وأحمد الخطيب وصالح شبل وحامد الجبوري ومحسن إبراهيم وأحمد اليماني. كما يحتوي معلومات شائقة عن مرحلة النضال السياسي والعسكري، ولا سيّما عمليات خطف الطائرات التي برع وديع حدّاد في تخطيطها وتنفيذها، علاوة على الانشقاقات اليسارية التي خلخلت تنظيم الجبهة الشعبية بين 1968 و1972. وقد انتشل الزميل صقر أبو فخر هذا الحوار المطوّل، والذي لم ينشر من قبل، من أوراقه الفلسطينية وحقّقه ووضع حواشيه وقدّم له. تنشر "العربي الجديد" حلقاتٍ منه، قبيل صدوره قريباً في كتاب بعنوان "جورج حبش ... عن البواكير والرفاق والمسار" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفيما يلي الحلقة الثانية من الحوار.

                                                          **********

شريف: نعود قليلاً إلى الجامعة الأميركية. اللافت أنّه لم يكن هناك، ضمن هذه المجموعة، لبنانيون، مع محاولتكم الاتصال بطلاب من الجامعة اليسوعية.
الحكيم: كانت قاعدة الحركة الطالبية للحركة في بداية تكوينها مؤلّفةً من اللبنانيين. أما على صعيد التحرّكات التي قمنا بها، فقد كانت قاعدتها مؤلّفةً أيضاً من طلاب لبنانيين، وكان لطلاب طرابلس شأن كبير. النواة الأولى في الحركة لم تضمّ شخصاً لبنانياً، لكن بعد سنتَين أو ثلاث أصبح عندنا ثلاثة رموز أساسية على الأقلّ (محسن إبراهيم ومصطفى بيضون ومحمد الزيّات). وعندما عقدنا المؤتمر الأول للحركة في عام 1956، كان حاضراً فيه محسن إبراهيم ومصطفى بيضون.


شريف: هل كان للفتيات شأن في هذه الأجواء؟ نتذكّر أسماء الموقّع مثلاً(1)؟
سائدة الأسمر: يوم التظاهرة التي ذكرتها [تظاهرة سنة 1951] كانت أسماء الموقّع أول من دفع الباب.

الحكيم: أسماء الموقّع رائعة، لكن مشكلتها كانت حماستها التي لا توافق حتى مقاييسنا. نحن وضعنا حدّاً عالياً من المقاييس. أمّا مقاييسها هي فكانت تذهب إلى حدّ أن أي إنسان لا يجسد مقاييسنا لا يجوز أن نتعاون معه. لكن أسماء لم تكن من النواة القيادية التي تتخذ القرار. وعندما قرّرنا أن يذهب أبو محمود إلى دمشق ليؤسّس فرعاً لحركة القوميين العرب في سورية، كان من بين الأسماء القليلة التي عمل معها أسماء الموقّع.

شريف: هل هي سورية؟
الحكيم: نعم، سورية. كان لديها بيت في بيروت نعقد فيه الندوات والاجتماعات. وهي وضعت نفسها ومنزلها تحت تصرّف مجموعتنا. كانت عنيدة في نضالها، وقامت بنشاط مهمّ، وأدّت دوراً كبيراً في الحركة الطالبية. وعندما انتهت مرحلة دراستها التحقت بإطار حركة القوميين العرب. مشكلتها حماستها الشديدة بحيث إن أبو محمود لم يكن يعجبها، ثم ما عاد جورج حبش يعجبها. وهذه تصوّرات مثالية عن النضال والأشخاص.

عندما أُسّست حركة القوميين العرب لتشكل ردّاً على هزيمة 1948 كان من عناوين الردّ العنف الثوري، ولم يكن لقسطنطين زريق علاقة بالموضوع ألبتة

شريف: متى انفتحتم على المخيمات الفلسطينية؟
الحكيم: كان ذلك بشكل مُبكّر وقبل تبلور حركة القوميين العرب، أي في الوقت الذي كنا ننشط في إطار حلقات قسطنطين زريق وجمعية العروة الوثقى. وكان لنا في تحرّكنا الجماهيري عنوانان. الأول هو الحركة الطالبية اللبنانية، والثاني اللاجئون إلى لبنان. لم نكن حتى ذلك الوقت حزباً أو حركة. كان معنا أبو ماهر اليماني وهو الأبرز، وعبد الكريم حمد قيس وأحمد سلامة (أبو غازي) وفرج موعد، وهنا كان ميدان نشاطنا واسعاً جدّاً. في هذه الفترة كنا نعبّئ المخيمات ونخوض إضرابات وتظاهرات واعتصامات ضدّ المشاريع التي كانت توضع لامتصاص النكبة واستيعاب اللاجئين من خلال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) ومشاريع توطينهم. وكانت لنا ذراعان للتحرك الجماهيري: الذراع الطالبية اللبنانية والجماهيرية الفلسطينية.

شريف: هل انتهى دور قسطنطين زريق لديكم في عام 1948؟
الحكيم: كنا نحترم الدكتور زريق كثيراً. إلا أنني عندما عدت من اللدّ ورام الله في عام 1948، لم يتخذ زريق أي مبادرة لإعادة الصلة بنا. كما أننا بعد رجوعنا بدأنا ننشط من خلال جمعية العروة الوثقى التي كنتُ أتولى فيها آنذاك موقعَ نائب الرئيس، فيما كان زريق مستشارَ الجمعية أو المرشد. في ذلك الوقت وضعنا قائمة موضوعات للندوات، وكان عدد منها ذا طابع سياسي مثل دور الأنظمة العربية في الهزيمة. ذهبت إلى الدكتور زريق للحصول على الموافقة على تنظيم تلك الندوات، فطلب منا أن نخفف قليلاً من عناوينها. طبعاً لم أراجعه، وصار لدينا انطباع أن صفته الأكاديمية تغلّبت على موقفه القومي. وليس من الضروري أن نطلب منه أكثر من المتاح. ومع ذلك بقينا نحترمه، ولم ننسَ دوره السابق، وتقبلنا أن هذه هي الحدود الممكنة لديه. وهذا هو الجواب عن السؤال الذي يُطرح دائماً عن صلة حركة القوميين العرب بزريق، وهذه هي حقيقته، بمعنى أنه قبل تأسيس الحركة، كان بعض مؤسّسي حركة القوميين العرب ينشطون في ندوات زريق، لكن عندما بدأ التفكير بتأسيس حركة القوميين العرب ردّاً على الهزيمة، أو عندما أُسّست الحركة لتشكل ردّاً على الهزيمة، كان من بين عناوين الردّ العنف الثوري، ولم يكن للدكتور زريق علاقة بالموضوع ألبتّة. طبعاً كان من ضمن عناوين الردّ الوحدة العربية والتحرّر والانتقام من الخونة، علاوة على العنف الثوري. أما الدكتور زريق فلم تكن له أي علاقة بهذا الموضوع.

شريف: نعود إلى إبراهيم أبو ديّة الذي تحلّقتم حوله في المستشفى. في ذلك الوقت كان حوله بعض الأشخاص مثل محمد خليفة (أبو عبد الله) ونمر الحاج إبراهيم. وبعد أن عدتم إلى الأردن بدأ التفكير لديكم بعمل عسكري. هل كان لديكم آنذاك الاستعداد لبدء العنف ضدّ إسرائيل من خلال محمد خليفة، والمجاهدين الذين كانوا في جيش الجهاد المقدس؟
الحكيم: نعم، موضوع العنف الثوري فكرنا فيه جدّياً أول ما ذهبنا إلى الأردن.            

                                                            جورج حبش شابّاً (Getty)

شريف: هل تعرف والد وديع، أبو قيصر، جيّداً؟
الحكيم: نعم، طبعاً.

شريف: كيف كان موقفه؟ أو لنقل موقف عائلة وديع من نشاطكم في تلك الفترة؟
الحكيم: أم قيصر كانت مُتعِبَة. أمه قوية، ليست أُمّاً بمعنى "يما يا حبيبي بلاش". لا، إنها من النوع القوي. لكن موقف أبو قيصر كان جيّداً مقارنةً بمواقف أم قيصر. أم قيصر كانت تتدخّل دائماً، وتريد أن تمنع وديع من الانخراط في نشاطنا، ولولا أنّ وديع ورث منها قوّتها وعنادها فربما تراجع أمام الضغط الذي تعرّض له. ولم يكن سهلاً انتشال وديع من هذا الجو العائلي والطبقي. وعادة يعاني المناضل كثيراً كي ينسلخ عن طبقته. فكانت أم قيصر تصرّ على أن تعيده إلى وضعه. لكن النكبة، والجو الذي استطعنا أن نوفّره لأنفسنا، والأخوّة التي ربطت بيننا، تغلّب ذلك كلّه على هذه الأمور.

لم يكن سهلاً انتشال وديع حدّاد من جوّه العائلي والطبقي. وعادةً يعاني المناضل كثيراً كي ينسلخ عن طبقته

شريف: ألم يكن لإخوته شأن معكم، رشيد وجورج تحديداً؟
الحكيم: لا، لا.

شريف: ذكرت أنكم كنتم أخوة؟
الحكيم: نعم.

شريف: أَلم تكن الأخّوة آنذاك نابعة من تعايشكم معاً لوقت طويل، والمسيرات التي كنتم تقومون بها، والجوع الذي واجهكم [في الأردن] أحياناً بحيث عشتم على الفستق، وقد كنتم شباناً آنذاك على وشك التخرّج في الجامعة؟
الحكيم: بالعكس كان لدينا موقف يقول إن الارتباط، أي الزواج، يقيّد حرّيتنا في العمل السياسي، وبالتالي لم يكن التفكير بهذا الموضوع وارداً. لا أستطيع القول إن قراراً اتُخذ في هذا الشأن، لكن الزواج كان أمراً مفروغاً منه، أي أنه لم يكن وارداً على جدول أعمالنا.

شريف: سامية حدّاد (زوجة وديع) تقول إن وديع أراد في إحدى المرّات أن يعرّفها إلى صديقته التي كان يفكّر بالارتباط بها في إحدى الفترات.
الحكيم: نعم، اسمها نازك البندك، كان يعرفها وديع في أثناء دراسة الطبّ، لكن عندما صارت الحركة مسألة وجودية لدينا، بات واضحاً لوديع أن من غير الممكن الارتباط بها، وسيظلمها معه نظراً إلى ما يرتّبه عليه النضال في صفوف الحركة. أنا أعرف الفتاة؛ آدمية جدّاً ونازكة وصغيرة.

 

                                                            وديع حدّاد يوم زواجه، دمشق، إبريل 1961

 

شريف: ألم تكن نازك ضمن إطار الحركة؟
الحكيم: لا. لكن في تلك الفترة كان الجو اللبناني الجماهيري متعاطفاً جدّاً مع قضيتنا.

شريف: هل اعتقلتكم السلطة في إحدى الفترات؟
الحكيم: نعم، وفي إحدى المرّات ذهبت أم قيصر معنا إلى السجن الذي أمضينا فيه ثلاثة أو أربعة أيام.

شريف: أنت ووديع؟
الحكيم: نعم. سجنت أنا ووديع مرّتين. المرّة الثانية، كنا نوزع منشوراً، وكان لدينا بيت تحت الأرض بالقرب من الجامعة. وبعد أن انتهينا من التوزيع، عدنا إلى البيت فوجدنا الدرك بانتظارنا. لست أذكر كيف حصل ذلك، ثمّة مجموعة سبقتنا بنحو ثلاث أو أربع ساعات، فاهتدى الدرك إلى مكان التوزيع. أخذوني أنا ووديع بسيارتهم. وديع نام في السيارة.

شريف: لماذا كان معجباً بالمطربة صباح؟ هل أحيتْ حفلة لمصلحة العروة الوثقى؟
سائدة الأسمر: ضمن نشاطاتكم الثقافية كنتم تنظمون مهرجانات لجمع الأموال. ولم تكن صباح في ذلك الوقت مشهورةً كثيراً، واتفقتم معها على إحياء إحدى حفلاتكم، فانطبعت صورتها في ذهن وديع حدّاد، خصوصاً في أداء المواويل.
الحكيم: لا أذكر. لكن وديع تسلّم مسؤولية اللجنة الاجتماعية أو الثقافية في جمعية العروة الوثقى. وعندما كان وديع عضواً في الهيئة الإدارية لم أكن أنا فيها. كان فيها، علاوة على وديع، الدكتور أحمد الخطيب، وعبد المحسن القطّان وصالح شبل، وربما هادي الصرّاف. أعتقد أن تلك الهيئة الإدارية انتُخبت في إثر المعركة الحادّة بيننا وبين الشيوعيين.

سُجنت أنا ووديع مرّتَين. في الثانية، كنا نوزّع منشوراً، وكان لدينا بيت تحت الأرض بالقرب من الجامعة. وبعد أن عدنا إلى البيت وجدنا الدرك بانتظارنا 

شريف: أَلم تجتمع مع وديع في هيئة إدارية واحدة في جمعية العروة الوثقى؟ كنتَ أنت رئيس الجمعية العمومية، وهم أعضاء في الهيئة الإدارية.
الحكيم: أعتقد ذلك.

سائدة: هل بدأت مرحلة الخطابة في تلك الفترة؟ يقال أنهم كانوا يعتمدون عليك وعلى خطبكم لاستقطاب الأنصار.
الحكيم: صحيح. النكبة أجرت تغييراً جذرياً في مجرى حياة كلّ واحد منا. وأنا أقرأ ما كتبه أسامة النقيب عن هذا الموضوع، لفتني ما قاله عن أن وديع كان خجولاً جداً جدّاً جدّاً. تذكّرت أيضاً مدى التغيير الجذري الذي أحدثته النكبة فيّ شخصياً. لم أكن أتوقع في أي يوم من الأيام أن أقف خطيباً. ولعلّ الإنسان يجد نفسه في مثل تلك الأحوال وهو يتكلّم بصدق وبحرارة من صميم قلبه، ومن دون تصنّع. النكبة حدث تاريخي كبير، وهو ما زال حتّى هذه اللحظة يهزّ المنطقة كلّها.

سائدة: ما دمنا نتكلّم على نشأة الحركة، كيف تم اختيار الاسم في الوقت الذي كانت فيه كلمة "الحركة" شيئاً جديداً؟ كيف اخترتم اللحظة الملائمة لإعلان ذلك ومتى؟ ما هي اللحظة التي اعتبرتموها ملائمة لإعلان تأسيس الحركة؟ ومن الذي اتخذ القرار؟
الحكيم: بدأنا نستعمل اسم حركة القوميين العرب في الأردن. قبل ذلك كانت معظم نشاطاتنا تجري بأسماء مختلفة مثل "الشباب القومي العربي" و"هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل"، لكن أهمها "الشباب القومي العربي". في الأردن بدأنا نميل إلى استعمال اسم "حركة القوميين العرب"، وإن لم أكن مخطئاً في المؤتمر الأول للحركة الذي عُقد في عام 1956(2). بقي اسم الحركة موضعَ نقاش وحوار في داخل الحركة ومؤسّساتها لفترة من الوقت. وعند ما اعتمدنا هذا الاسم جرى نقاش في المستوى القيادي، وكان هناك من يتساءل: لماذا لا نعتبر أنفسنا حزباً، فالحزب هو التعبير العلمي عن تنظيم سياسي له استراتيجيته البعيدة. وفي المقابل كانت هناك وجهة نظر تفضل اسم "حركة القوميين العرب" استناداً إلى السمعة السيئة للأحزاب العربية بشكل عام، بمعنى أن كلمة "حزب" كانت منفّرة للمواطن، فلماذا نتحمّل أوزار هذه التسمية منذ البداية؟ وثمة سبب آخر كانت تستند إليه وجهة النظر التي تقول بضرورة الإبقاء على اسم الحركة، هو أننا نريد إشعار الجماهير العربية بأن هذه "الحركة" حركتهم، وليست تنظيماً لفئة سياسية محددة. وبقي هذا النقاش يدور في أوساط الهيئة القيادية الأولى التي انبثقت من مؤتمر عمّان في عام 1956. وأذكر أننا في بداية عام 1959 أو أواخر عام 1958 قلنا: لماذا لا نستشير القاعدة الحزبية للوقوف على رأيها في هذا الموضوع. وهذا الموضوع مرتبط في ذهني بفترة خروجي من الأردن. المهم أننا أصدرنا تعميماً وطلبنا رأي القاعدة الحزبية. وجاءت النتيجة لمصلحة الإبقاء على تسمية "حركة القوميين العرب"، فرسونا على هذا الاسم.

سائدة: هل كان للحركة نظام داخلي ودستور منذ البداية؟
الحكيم: لم يكن لها نظام داخلي مكتوب، لكن كانت هناك مجموعة من المبادئ التنظيمية المعروفة كتبنا عنها في نشرة "المناضل الثوري". وأذكر أننا في صيف عام 1959 عقدنا دورةً حزبيةً في دمشق دامت أسبوعاً كاملاً، كان هدفها إعداد كوادرنا الطالبية التي تخرجت في جامعات القاهرة للبدء في تأسيس فروع جديدة للحركة في الأماكن التي سيعودون إليها. يومذاك بدأنا نؤسّس فروعاً لحركة القوميين العرب في اليمن الجنوبي واليمن الشمالي والسودان وليبيا والبحرين وفي الكويت بالطبع. ولإعداد هذه الكوادر عقدنا سلسلةً من الندوات شاركتُ فيها، وكذلك أبو محمود [هاني الهندي] والحكم دروزة، وربما محسن إبراهيم، مع أنني لست متأكداً من مشاركة محسن إبراهيم لأنه كان مقيماً في بيروت. قدّمتُ بحثاً عنوانه "المبادئ التنظيمية التي يقوم عليها تنظيم حركة القوميين العرب"، وأوجزت هذه المبادئ بما يلي: المبدأ الأول القيادة الجماعية، المبدأ الثاني القيادة للأكفأ، المبدأ الثالث القيادة في صفّ الأعضاء، المبدأ الرابع النقد والنقد الذاتي، المبدأ الخامس الوحدة الفكرية، أي لا تَجَنُّح ولا أجنحة. ومبدأ آخر هو المركزية المرنة لأننا لم نكن نستعمل في ذلك الوقت عبارة المركزية الديمقراطية، لأننا نعرف أن السرية هي التي تحيط بظروف عملنا، وأن الحركة مازالت في طور التأسيس. وكان لدينا اجتهاد بأن الحركة يجب أن تقوم على أساس المركزية، لا على أساس المركزية الديمقراطية. والمركزية في الحركة تمنح الصلاحيات كافّة للصفّ الذي يلي الصفّ القيادي الأول. هذه أهم المبادئ التنظيمية التي كان عددها عشرة مبادئ. في ذلك الوقت، لم يكن هناك نظام داخلي، واكتفينا بالمبادئ التنظيمية. أما بالنسبة إلى البرنامج، فلا أستطيع القول إنه كان لدينا برنامج، ولكن كانت هناك مجموعة من المفاهيم السياسية والنظرية مثل الأمة العربية والقومية العربية. ولأن الأمة العربية حقيقة، فهي تتطلّب نضالاً من أجل الوحدة العربية يترابط مع النضال في سبيل التحرّر. ومن الموضوعات الأخرى خصوصية القضية الفلسطينية، أكانت من زاوية رؤيتنا إلى الكيان الصهيوني وفهمنا له، أم من زاوية خصوصية القضية الفلسطينية نفسها. أما موضوع الاشتراكية فقد مرّ بمراحل عدة. في المرحلة الأولى كنا نقول إن هناك مراحل للنضال، وهذه المرحلة ليست مرحلة الاشتراكية، بل هي مرحلة تجميع الأمة العربية كلّها، بتياراتها وطبقاتها، لتخوض معركة التحرّر ومعركة الثأر، أي استرداد فلسطين. وبعد أن ننجز هذه المرحلة ننتقل إلى الاشتراكية. تلك المفاهيم النظرية والسياسية يمكن إيجازها بفكرةالقومية العربية ووجود الأمة العربية، وأولوية النضال من أجل الوحدة العربية وتحرّر الأمة العربية. وخلال النضال من أجل وحدة العرب نصبح قادرين على استرداد فلسطين. أما الاشتراكية فتأتي في المرحلة التالية. وكان يتفرّع من هذه المفاهيم الأساسية مجموعةُ مفاهيم فرعية أخرى؛ فقد كنا نقول: "إن كل يهودي صهيوني"، أي لا فارق بين الصهيونية واليهودية. وهذه المفاهيم كنا نردّدها في البدايات فحسب، ثم خضعت للتعديل لاحقاً.

بدأنا نستعمل اسم حركة القوميين العرب في الأردن. قبل ذلك كانت معظم نشاطاتنا تجري بأسماء مختلفة

سائدة: هذه المفاهيم حظيت بنقاش مديد في أحد الاجتماعات مع الدكتور أحمد الخطيب.
الحكيم: كنا نقول لا يوجد فارق بين اليهودي والصهيوني، وكانت غايتنا إظهار عدونا على حقيقته، وأن جميع اليهود صهيونيون، والاستثناءات لا تبرّر أن نقسّم اليهود بين صهيونيين وغير صهيونيين. للمرّة الأولى وقفنا عند هذه المفاهيم السياسية في دورة قيادية في بداية عام 1959. عقدناها في بيت رياض الصلح بالقرب من السفارة الكويتية في بيروت. لم يكن البيت مسكوناً، وكان مفتاح البيت موجوداً في حوزة مصطفى بيضون، فعقدنا دورةً قياديةً للبحث في تلك المفاهيم. وللتذكير، فإن فرع لبنان شكّل لجنة فكرية ضمّت محسن إبراهيم وجوزيف مغيزل وعبد الحميد شرف وآخرين. يومذاك تحدّث محسن ابراهيم عن بلورة مجموعة من الآراء تحتاج إلى طرحها على قيادة الحركة، خصوصاً أننا لمسنا في نشرات الحركة وحتى في مجلة "الحرّية" بعض العبارات الخارجة عن المفاهيم التي تعوّدناها في حركة القوميين العرب، فقلنا إن من الضروري مناقشة هذه الموضوعات. ولهذه الغاية عقدنا ذلك الاجتماع الذي قدّم فيه محسن إبراهيم عرضاً لها، وهي أولاً شعار "الثأر"؛ لماذا هذا الشعار؟ ولماذا لا نستبدله بمحتوى سياسي؟ نحن نقصد بشعار "الثأر" مركزية القضية الفلسطينية(3). لكن هذه الكلمة لا تعبّر بوضوح عن مضمون سياسي، بل عن مفهوم ثأري شخصي ليس في الإمكان فهمه حضارياً. والموضوع الآخر كان يتناول جوهر شعارات الحركة ومفاهيمها، وأعني بذلك المراحل. أليس هناك تشابك بين مرحلة الوحدة والتحرّر والثأر ومرحلة الاشتراكية؟ كان ثمة وجهة نظر تقول إن هناك تشابكاً، ويجب أن نرفع شعار الاشتراكية. وكان هناك موضوع آخر هو: هل كل يهودي صهيوني؟ أم أن بعض اليهود ليسوا صهيونيين؟ ومصلحتنا تقتضي عدم القول إن جميع اليهود صهيونيون. ربما كان إلى جانب هذه الموضوعات موضوعان آخران أو ثلاثة. أذكر أن هزّةً حدثت في بداية النقاش، لكن في النهاية ضبطنا الوضع، وقلنا لنستخرج ما هو صحيح من وجهة النظر التي طُرحت. وأتذكر أن الخلاصات كانت على النحو التالي: إلغاء شعار "الثأر" والاستعاضة عنه بشعار "استرداد فلسطين". ولم نتبنَّ شعار "الاشتراكية" في ذلك الوقت، لكن أصبح لدينا مضمون واضح للمرحلية، بمعنى أننا لا نستطيع القول إن هناك مرحلتين، تكبس على زر فتنتهي مرحلة، ثم تكبس على زر آخر فتبدأ مرحلة أخرى. كذلك تمكنّا من صوغ مضمون جديد للصهيونية وارتباطها باليهود. وبهذا المعنى كانت محصّلة الوقفة لمصلحة تطوير مفاهيم الحركة، وتسجيل درس في كيفية تطوير مفاهيم الحركة بالتقيد بالضوابط التنظيمية، وبالحوار الأخوي والرفاقي. وهذا الأمر يقودني إلى القول إن ثمة سمة ميزت حركة القوميين العرب خلاصتها أن الحركة لا تستطيع أن تدّعي أنها انطلقت من نظرية محددة ومفاهيم واضحة، بل كانت مشدودة بالدرجة الأولى إلى النضال. ويمكن القول إنها مثلت ردّة الفعل العفوية على النكبة، لكن قيادتها كانت تتمتّع باستيعاب جيّد وقدرة على استخلاص ما تفرزه التجربة من دروس، لتشكّل سنداً نظرياً جديداً متنامياً ومتراكماً.

في لبنان لم تكن حركة القوميين العرب مجازة قانوناً. بقيت تنظيماً سرّياً، ما أثر في عدم قدرتها على تطبيق الديمقراطية وعلى بنائها وطبيعة مفاهيمها

سائدة: هل نالت الحركة رخصة رسمية، أم بقيت تعمل سراً طوال ذلك الوقت؟
الحكيم: لا، لا. وفي لبنان لم تكن مجازة قانوناً. بقيت الحركة تنظيماً سرّياً، وهو ما أثر في عدم قدرتها على تطبيق الديمقراطية وعلى بنائها وطبيعة مفاهيمها. انطلقت الحركة منذ بدايتها في الأقطار التالية: الأردن (بما في ذلك الضفة الغربية طبعاً)، لبنان، سورية، العراق، الكويت. وفي عام 1955 صارت لنا مجموعة في القاهرة نتيجة طرد مجموعة من الشبان الحركيين من الجامعة الأميركية في بيروت وذهابهم إلى القاهرة لمتابعة دراستهم. وفي عام 1959 ونتيجة لوجود فرعنا الطالبي الذي أصبح قوياً في القاهرة، استطعنا أن نؤسّس فروعاً جديدةً للحركة إضافة إلى الفروع أو الأقاليم، كما كنا نسميها في ذلك الوقت. وتمكنّا من أن نؤسّس فروعاً في اليمن الجنوبي ثم في اليمن الشمالي والسودان وليبيا والبحرين.

شريف: أودّ أن أسأل عن مطعم فيصل (4) واللقاءات التي كانت تتم فيه. وتردّد على لسان أشخاص آخرين مقهى الروضة على البحر. هل كانت بعض الاجتماعات أو اللقاءات تجرى في مقهى الروضة؟
الحكيم: الاجتماعات القيادية في مطعم فيصل لم يتجاوز عددها 7 أو 8 أو 9 اجتماعات. لم يكن من الممكن عقد الاجتماعات في هذا المقهى الذي كان يعمل فيه شاب من عائلة محيو. كنا نلتقي هناك مجرّد لقاء يضمّ سبعة أو ثمانية أشخاص فلا يلفت الأنظار. كنا نتخذ زاوية ما، ونتداول الحديث بشكل مرّتب كأنه جلسة، لكن من دون الشكليات ومن دون أوراق. وعندما انتقلنا إلى الأردن أصبحت الاجتماعات المركزية في الأردن تتم في العيادة، وكان من السهل أن نجمع 10 إلى 12 شخصاً في العيادة أو في بيت ما ونناقش القضايا التي تواجه الحركة.

لم تكن صباح في ذلك الوقت مشهورةً كثيراً، وانطبعت صورتها في ذهن وديع حدّاد، خصوصاً في أداء المواويل

شريف: هناك رواية، نقلاً عن الدكتور كمال الصليبي، تقول إن مدير الأمن العام في ذاك الوقت الذي كنتم فيه طلاباً في الجامعة، وكانت تحصل اعتقالات أحياناً لبعض الطلاب، كان يأتيه "أمر من فوق" بالإفراج عنهم. ما هو تقديرك لهذا الكلام؟ وهل يمكن ربطه بما كانت تمارسه إدارة الجامعة من الارتياح للصراع بين العروبيين والشيوعيين في تلك الفترة؟ هل هناك أي شيء ملموس من هذا القبيل؟ وهل كانت لكم صداقات تساعدكم أو تحميكم مثل رياض الصلح، وهل كانت لبناته علاقة بكم؟
الحكيم: بنات رياض الصلح، ولا سيّما علياء كنَّ ضمن الحركة الطالبية الواسعة. أما هذا الموضوع فلم أسمع به، ولا أستطيع إثباته. والموضوع الذي أشرتَ إليه أجبتُ عنه مراراً، وتبيّن لنا أن إدارة الجامعة الأميركية شعرت في مرحلة معينة بأن القوميين العرب لا يقلّون خطراً عن الشيوعيين، وتحوّلت الصدامات الأساسية مواجهاتٍ مع التيار القومي وليس مع الشيوعيين. أنا لاحظت بنفسي أن هناك أستاذاً أميركياً كان يستمع إلى الخطابات، وغاظني وقوف ذلك الأستاذ بالقرب منا كأنه يتجسّس علينا. وكان العام 1950 – 1951 سلسلة من المعارك ليس ضدّ الشيوعيين، بل ضدّ إدارة الجامعة الأميركية آنذاك فصلوا بعض الطلاب لفترة وأرجعناهم بالقوة(5). أما أن الاستعمار يحاول أن يدرس التعارضات ويلعب عليها فهذا صحيح. وعلى سبيل المثال وقعت حادثة لها صلة باليمن وموضوع الديمقراطية والاستقلال والجبهة القومية. طبعاً حاولت بريطانيا أن تُفشِل الثورة المسلحة كلياً بعد ما فشل استعمارها وما عاد في إمكانها أن تراهن على بقائها في اليمن، فكانت الغاية من الاسراع في تسليم بريطانيا السلطة إلى الجبهة القومية أن تخلق مشكلة لعبد الناصر. لكن الذي حصل هو العكس؛ فبعد طرد الاستعمار البريطاني، صارت الثورة اليمنية مثالاً لثورة تحرّرية ذات شقّين، تحرّر وطني مرتبط بالتحرّر الاجتماعي.

                                               جورج حبش في مكتبه في عمان، 1970 (Getty)

شريف: تتبادر إلى الذهن مجموعة أسماء في تلك الفترة أمثال عفيف الطيبي ووفيق الطيبي ممّن كانت لهم علاقة وثيقة بأوساط الحركة(6)، وكذلك لجنة كل مواطن خفير(7). هل العلاقة أقدم من عام 1958 – 1959، ولعلّها تعود إلى فترة انطلاق ثورة الجزائر؟
الحكيم: كنّا نتوجه نحو الإفادة من أي شخص أو شخصية أو صحيفة أو قوة سياسية نشعر أنها ربما تؤدّي خدمة لنا ولأهدافنا. إن الحيوية التي ولدتها النكبة في نفوس هذه المجموعة من الشبان كانت تشكل صاروخاً منطلقاً يتجاوز أي قوة تريد أن تعرقله. ونحن في لبنان حاولنا أن نستفيد من أي صحافي، ومن أي شخصية وطنية، ومن أي قوة سياسية فلسطينية أو لبنانية إذا كانت تخدم أهدافنا. لكن في أي وقت نشعر أن هذه القوة لديها أهداف أخرى تحاول أن تحقّقها على أكتافنا، نتجاوزها. وأبرز مثل على ذلك مجموعة حمد الفرحان وعلي منكو في الأردن.

هوامش

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق